بقلم قمر عبد الرحمن
السّـ ـابع من أكتوبر علامةٌ فارقةٌ في تاريخ الشّعب الفلسـ ـطينيّ، حيث كسر التّضـ ـليل العالميّ للقضـ ـيّة الفلسـ ـطينيّة، لكن للأسف كان ذلك على حساب حياة وكرامة الإنسان الفلسـ ـطينيّ، فمن أهداف اندلاع هذه الحـ ـرب تحـ ـرير الأقـ ـصى، وتحـ ـرير الأسـ ـرى، ورفع الحـ ـصار وبعد عامين ما زالت القـ ـدس أسيـ ـرة، وذاب الأسـ ـرى من الانتظار ومن قرارات الشّـ ـيطان بن غفـ ـير، وفقدت غـ ـزّة أكثر من 50000 شهـ ـيدًا، بالإضافة للعدد الهائل من المفقودين تحت الأنـ ـقاض وبسبب النّـ ـزوح الذي فاق الوصف، علاوةً على الأزمات النّفسيّة والجسديّة للأطفال وللنّساء وللرّجال أيضًا، وظاهرة اليُتم المرير الذي يزيد يومًا بعد يوم للأطفال دون سن العاشرة، والبيوت والأماكن التي فقدت ملامحها من جحـ ـيم النّـ ـار والحـ ـصار والدّمـ ـار الممتد!
اليوم يوم الأسـ ـير الفلسـ ـطينيّ 17 من نيسان، تُرى ما حال الأسـ ـرى الآن؟ قبل السّـ ـابع من أكتوبر، كنّا نحثّهم على الكتابة ليشعروا ببعض حياة، اليوم لا يكتبون، ولا يأكلون، لا يتعالجون!
سمعت خبرًا مؤخرًا يُبكي بكاءً مريرًا، لم يكتف الاحـ ـتلال بقطع الماء عن الأسـ ـرى، بل تعليمات الشّـ ـيطان بن غفـ ـير جعلت إدارة السّـ ـجن تُجبر الأسـ ـرى على الشّرب من ماء المراحيض! الأسـ ـير الآن يتمنّى أن يمـ ـوت تحت الصّـ ـواريخ بدلًا من القـ ـهر النّفسي والجسدي الذي يعيشه في السّـ ـجون!
الحـ ـرب وحّدتنا في المعا ناة فقط!
النّحول يغزو الأجساد بشكلٍ ظاهر، دقّت البطون، وتهدّلت الأكتاف المرتفعة، وسقطت الأيادي على الجانبين، وغارت العيون من الشّحوب، وضمرت الخدود، ودمعت عيون الرّجال حتّى جفّت وتبنّجت، واكتفى عددٌ منهم بالتّكور في الزّوايا والأطراف يشكو إلى الله ما حلّ به، ومنهم من يشكو ويشتم الوطن وفكرة النـ ـضال التي جرّته للسّـ ـجن أو للحـ ـرب! ويعمد عددٌ لا بأس به من ذوي القلوب المؤمنة إلى تصبير من حولهم، والرّبط على قلوبهم بالإيمان..
"الإيمان" إشراقةٌ تضيء في الرّوح، حتّى لو لم يقوَ الأسـ ـير على النّهوض من مكانه، ولا حتّى الكلام! كلّ متفاعلٍ ما زال سليمًا مهما كانت حالته، لكنّ الفئة التي تُخيفك وتُبكي الحجر مَن أصابهم الصّمت المطبق ممّا يحدث لهم دون تفسير، وأصبحوا لا يصدرون الآهات أثناء التّـ ـعذيب حتّى، شيءٌ ما انطفأ بأرواحهم، وأخفى أصواتهم! فئةٌ أخرى في السّـ ـجون استسلموا للقدر "هذا قدر الفلسـ ـطينيّ" بلا أيّ مقاومة، وهذا النّوع من التّأقلم وجـ ـعٌ آخر أيضًا، معتقدين أنّ الشّمس ستطلع عليهم وهم ميّتون!
هذا الزّمن فادح، وهذه الأيّام عصيبة، لقد تعدّى الأمر الصّبر والتصبير بآيةٍ أو بحديثٍ شريف، أو بنصيحةٍ أو بجملة وعيٍ مبتكرة، لا أحد في مزاجٍ ليسمع شيئًا! صوت الانفـ ـجارات والمـ ـوت الهائل طغى على مناطق الاستيعاب في الدّماغ!
وفي ظلّ هذا الصّدود، فإنّ بقاء الأسـ ـير على قيد الحياة هو الأهمّ، حتّى يصلون إلى حلٍّ منقذٍ قبل فوات الأوان! لكن.. كان "الملح والماء" أهمّ عنصرين لمقاومة الإغماء والإصابة بالتّليّف الكبدي، تصوّر الآن الأسـ ـرى ممنوعون من هذه المقاومة حتّى! "مقاومة الملح والماء" الماء مهم، والأهمّ أن يكون صالحًا للشّرب على الأقلّ، والطّعام مهم حتّى لو كان قليلًا؛ لنضمن عدم موت الأسـ ـير! إلّا أنّ كلّ شيءٍ ينعدم تمامًا، والشّحيح المتوفر ملوّث، قد تكون بعض الملوّثات مفيدة لأجسام بعض الأسـ ـرى، لكن هذا يعرّض الأغلبية العظمى منهم لهجومٍ كاسحٍ من الأمراض التي يعرفونها ولا يعرفونها بسبب التّلوّث، وهذا بحدّ ذاته سياط تعذيبٍ آخر..
أكلتنا الحقيقة، وقتلتنا فكرة التّمسك بالأرض، وسحقتنا أقدام الظّـ ـلم والظُّـ ـلّام، أيّ عدلٍ يدفع الفلسـ ـطينيّ أن يهب عمره للأرض مع فقدان فرصته المستحقّة في العيش بها بعد التّحرّر ليومٍ واحد أو لساعةٍ واحدة على الأقلّ؟ قد يهون الجـ ـوع والمـ ـرض، وقلّة الأكل وعدم الاستحمام، والبطّانيات الرّقيقة وقلّة النّوم، لكنّ الأنكى من ذلك، أنّهم صاروا يعـ ـذّبوهم بالوهم والانتظار، تأجيلٌ يتبعه تأجيل، ساعات من الصّمت الطّويل أمام المحاكم، الأهالي يعضّون على شفاههم من الألـ ـم والحـ ـسرة، وطعم الشّـ ـقاء المجـ ـروح ينسحب إلى دواخلنا ويجـ ـرحنا!
الفلسـ ـطينيّ يرمق أخاه الفلسـ ـطينيّ بعصبيّةٍ بسبب فصيلٍ لم يقدّم للوطن إلّا لونًا مختلفًا في العلَم، وبعدها صار علَم الفصيل وطنًا للمصالح ليس إلّا، ونُسِيَ الوطن الحقيقيّ!.. أمّا العربيّ لا ينفك عن لوم الفلسـ ـطينيّ لأنّه هو من باع أرضه منذ زمنٍ بعيدٍ باعتقاده! علاوةً على مصيبة استبدال الغـ ـضب الفلسـ ـطينيّ الواقعيّ بالافتراضيّ! ويكتمل مشهد المـ ـوت المُشكّل بحفلٍ راقص في مدينةٍ مجاورةٍ أو بلدٍ عربيٍّ مجاور! عندها تنـ ـفجر القلوب من الغـ ـيظ والقـ ـهر والانتظار وحرقة اللّهفة، أمّا كبرياؤنا كفلسـ ـطينيّين حقيقيّين ما زلنا نحاول الثّبات عليه في عصر التّطور والتّكنولوجيا وعالم حقوق الإنسان الزّائف!
هذه طاحونةٌ لا نهاية لدورانها، أنا لا أملك الحلّ كفلسـ ـطينيّة، ولا أؤمن بادّعاء أحدهم لمقترحٍ أو حلٍّ بشريّ، الأمر تعدّى قدرة البشر على التّفكير في حلٍّ ينصف البلاد والعباد المنكوبَين، نحن بحاجةٍ إلى معجزةٍ من معجزات الأنبياء كشقّ البحر مثلًا؛ لإنقاذ ما تبقّى من شعب غـ ـزّة!
لكنّي أتساءل كأيّ فلسـ ـطينيٍّ حرّ..
بعدما لم يتبق لنا منّا شيء، ماذا يمكن أن نكسب من عودٍ بعد احتراقه؟ وماذا يمكن أن نستفيد من ماءٍ بعد انسكابه في الرّمل؟ وما قيمة الصّبر على سهام المـ ـوت بعد أن تخترق الرّوح؟ ثمّ يصفعك الجهلاء بكلمةٍ اعتادوا أن يردّدوها للفلسـ ـطينيّ على وجه التّحديد دون إدراكٍ لثمنها الإنسانيّ الباهظ وهي: اصمدوا!! نحن منذ أن خلقنا الله في هذه البلاد ونحن صامدون بالفطرة، أرجوكم لا تقولوها الآن كحلٍّ ساذج!