"متحف آرمٰات عمّان" حين نعلقُ في الذاكرة
تقرير محمود الشبول و فدوى نجم :
بوجه بشوش، وكثير من الترحاب، يستقبل أمين المتحف الفنّان "غازي خطاب" الزوّار بالقصص الشيّقة التي تحيط كلَّ آرمة ولوحة تسكن المكان الذي يعدّ الأول من نوعه محليًّا وعالميًا، فهو بلا انحياز؛ ذاكرة عمّان الإعلانية، والجهة الأولى التي تسعى إلى تخليد أعمال الخطاطين.
انطلقت شرارة الفكرة من حبّ السيّد خطّاب ومتابعته للخطّ العربي في العام 1970، حيث كان الإلهام نابع من حكاية صندوق إسعافات أوليّة (صندوق الإسعافات الأولية في الأساس هو ضرورة للإنقاذ السريع أو الخطوة الأولى في المعالجة)، لكنه عند السيّد غازي خطّاب كان بداية لحلم كبير قاده نحو الإبداع، وأخذ بيده ليصير فنّانًا معروفًا في مجاله، وذلك عندما رأى "حرف العين" الذي يتوسط كلمة "إسعاف" مكتوبة بطريقة مبتكرة؛ أوحت له بشراء قلم تخطيط (فلوماستر) ليعمل على تقليد "حرف العين" الذي منحه البداية والشغف.
ولحبّهِ المُفرط لكلّ ما هو مشغول بالخط العربي الكلاسيكي، انتقل إلى مراقبة اللوحات الإعلانيّة المتوفرة فوق واجهات المحال في شوارع العاصمة، وكانت رحلة المشي والهيام على الوجه، تبدأ "حسب قوله" من منطقة مخيم الوحدات، إلى المصدار، ثم شارع سقف السيل، انتهاءً بمنطقة ماركا. كما أنه في الوقت الذي كان يساعد والده بإدارة "دكانه" الموجود في منطقة "العبدلي"، كان يستقل الحافلة من مخيم الوحدات إلى قاع المدينة، ومنها إلى منطقة العبدلي، وكان حريصًا على أن يجلس إلى جانب النافذة ليكون باستطاعته تأمّلَ ومشاهدة جميع الآرمات التي تقابله في طريقه، والتي "كانت كل واحدة منها" تمثّل قطعة من قلبه، ولأنّه الفنّان؛ كثيرًا ما لفَت نظرهُ القمر ليلًا، فيتخيل بأنه سيضيء له جميع اللوحات التي لم تكن واضحة أو ظاهرة له.
ثم جاءت مرحلة الدراسة الثانوية، التي عمِل خلالها أجيرًا عند خطّاطين معروفين، غازي لم يكن خطاطًا بعد؛ بل كان يساعدهم في التنظيف والتعبئة والتخطيط مقابل مبلغٍ من المال قدره "6" دنانيرفي الأسبوع الواحد آنذاك، بعدها تجرّأ على شراء فرشاة خاصة بالتخطيط، ابتاعَها وهو عائد إلى منزله، كان شعوره حينها شعور المنتصر، أو الفائز بكنز ثمين! لكن هذا الشعور لم يصنع عند عائلته سوى الرفض والسؤال عن كيفية تدبّر هذا ثمن الفرشاة البالغ "6" دنانير!
لم يطل الوقت حتى صار غازي خطاب قادرًا على ممارسة التخطيط على واجهات المحلات التجارية، فقام بكتابة لوحة (دواجن الوفاء)، التي اضطر عند كتابتها أن يغيب لنصف يوم عن مدرسته، فقام أستاذه في اليوم التالي بطلب وليّ أمره ليسائله عن غياب ابنه، فما كان منه إلّا أن طلب من صاحب العمل ومعلمه الأستاذ "محمد أبوحميد" أن يأتي إلى المدرسة ليكون وليّ أمره، مبررًا السبب بأنه لا يستطيع إخبار والده عن سبب غيابه.. وعندما التقى معلمه "أبوحميد" بأستاذه في المدرسة، كانت المفاجأة بأنهما صديقين مقربين، وبناء عليه تم حلّ مسألة الغياب.
ثم جاءت مرحلة التوجيهي الفاصلة في حياة الطلاب، كان غازي وقتها منشغلًا جدًّا بالتخطيط والتدرّب والعَمل، فجاءت علامته متدنية خلال الفصل الدراسي الأول من السنة، لأنه لم يعط اهتمامًا كافيًا لدراسته، ما أدى إلى رسوبه، فقامت عائلته لاحقًا بتغيير مكان سكنهم إلى منطقة "جبل النصر"، هناك أصبح غازي يدرس ويهتم أكثر.
وبعدما أنهى امتحاناته للفصل الدراسي الثاني، نزل فورًا إلى منطقة وسط البلد، وقام بالتقاط صورة له إلى جانب لوحة جديدة حملت اسم عائلة (صرصور) وهو محل لبيع الملابس، تم بعدها الإعلان عن نتائج امتحانات التوجيهي، استطاع غازي أن يحصل على معدل كاف لإكمال دراسته في ألمانيا، حيث كان له أخ هناك ينتظره لكي يسجّل في أي تخصص متوفر لدى الجامعات الألمانيّة.. لم يشغل فكر غازي شيء كدراسة تخصّص (فن تصنيع اللوحات الإعلانية) التي كانت هوايته وهاجسه، فدرَسها دراسة مهنية، وبقي يشجع الشباب "حتى الآن"على الدراسة المهنية وليس الأكاديمية فقط.
عاد إلى الأردن بعد أن أنهى دراسته في ألمانيا، حاملًا معه مشروع تخرجّه هناك، واللوحة التي التقط صورة إلى جانبها؛ عاد في العام 1986، أي بعد سنوات، واستطاع أن يحصل عليها، وتصبح من أملاكه، وهنا كانت بداية (متحف آرمات عمّان)، بدأ بعدها بالعمل على تجميع اللوحات التي يتم استبدالها أو التخلص منها.
باختصار أكثر.. غازي خطّاب بدأ بحرف في كلمة "إسعاف"، ثم اقتنى لوحة "صرصور"، ثم كان المتحف، ويجمل السيد خطاب فكرة المتحف بالقول: "إسعاف لإرث اللوحات الكلاسيكية في الأردن".
ولو لم يتم تجميع هذه اللوحات في الأردن، ووضعها في مكان مناسب، لكانت لاقت مصيرها من فكرة الضياع.
الآن، هذا المتحف يتوسط الجميلة عمّان، فيه حكايات كثيرة، ولكل لوحة حكاية وقصة مؤثرة، والمتحف صار وجهة ومعلمًا بارزًا من معالم العاصمة، وهو يستقطب زوارًا من الأردن والعالم أجمع، كما أنه أمسى محطة لمختلف الخطاطين العرب الكبار... فيه شيء من حنين الماضي، ونظرة عميقة لمستقبل أجمل، يؤرشف سيرة مدينة لها تاريخها.
يودّعك السيّد غازي خطّاب بالجمال ذاته الذي استقبلكَ به، وربّما يهديكَ لوحة أنيقة تحمل اسمك بواحد من الخطوط العربيّة الأصيلة، وحين تخرج من أسْره؛ ستبقى عالقًا في متحفه.
إرسال تعليق