زئير الخائف للكاتبة رضوى رضا

زئير الخائف للكاتبة رضوى رضا

 زئير الخائف 


#سما_حوران :-

سيطر الحزن على الجميع بعد مرض الأسد الكبير وزادت الأقاويل بعد طلب طبيبه إطلاق رصاصة الرحمة عليه؛ فعذاب الألم ينل منه كل يوم وليلة، ولم تعد تمر عليه لحظة ساكنة دون دواء مُسكن من طبيبه الخاص، ولكن لا أحد يستطيع اتخاذ قرار إنهاء حياة الأسد الكبير إلا صاحبته جدتي، جدتي هي كبيرة قريتنا ورغم أنها اقتربت من المئة عام إلا أنها ذات عقل راجح وهيبة لا تقبل الجدال وحكم نافذ، وهي صاحبة الأسد الكبير الذي لم تقبل يوما التفريط به لا ببيعه وقد عرضت عليها المبالغ الطائلة فيه، ولا بإطلاق صراحة للغابة يذهب حيث يشاء، ولا بإطلاق رصاصة الرحمة عليه حين مرضه الشديد؛ ففي كل مرة يكون لديها يقين أن حالته الصحية ستتحسن وكذلك يحدث، لكن وعكته الحالية شديدة لدرجة أنه معها امتنع بنفسه عن الأكل وضعفت بنيته وقدرته وأصبح معذباً وبدت وكأنها أيامه الأخيرة...

توجهت إلى جناح جدتي سيدة القرية ووجدتها تجلس في شرفتها الكبيرة المطلة على القرية بأكملها، اقتربت منها وجلست مواجهة لها لأرى عينيها دامعتين ثابتتين تنظران إلى عرين الأسد الكبير الموجود في حديقة بيتنا، ربت على يدها شارحة لها ما قاله الطبيب عن الحالة المرضية لصاحبها الأسد ثم التزمت الصمت في انتظار رأيها، ولم تتحدث؛ فبادرت قائلة "جدتي الحبيبة يصعب فراق الأحباب لكن من الصعب معايشتهم وهم يتألمون وليس لنا في منع آلامهم حيلة، فلا بد من موقف جاد باتجاه الأسد الكبير إنه يموت فعلا؛ فحتى الأكل امتنع عنه منذ مدة" 


أومأت برأسها موافقة وما زالت تنظر إليه قائلة "لكن من أدراك أنه حبيب؟" 


قلت دون تفكير "احتفاظك به، تعيين طبيب خاص له، اهتمامك بأحواله، وأخيرا رفضك إطلاق رصاصة الرحمة عليه ليتخلص من آلامه"


 رفعت رأسها نحو السماء الصافية وأخذت شهيقا عميقا ثم زفيرًا نظرت بعده إلي قائلة: الموت أحيانًا كثيرة يكون رحمة من عذاب الحياة والبعض لا يستحق هذه الرحمة.


لم أفهم شيئا وأظهرت عيناي هذا فقالت: منذ سنوات بعيدة حينما كنت مثلك شابة في العشرين من عمري كانت أرض غابتنا تكسوها الدماء وأطفالنا يتامى ونسائنا أرامل وأمهاتنا ثكالى ورجالنا ما بين شهيد ومقاتل، والقسوة عنوان المعتدي وكنا جبارين رغم كل هذا متماسكين نزف الشهداء ونركض للحرب، نطفئ نيران قومنا ونشعلها في جبهة المعتدين، نأكل الفتات ونكتسي الرماد ونواجه ونحارب وندعو صاحب الملك بالنصر ولا نتوقف، بل نقدم أرواحنا ولم ننتظر يوما إلا النصر، لكنه لم يكن يأتي. 


ظل الحال كما هو سنوات وسنوات نرسل للغابات المجاورة نطلب العدة والعتاد والمساندة، منهم من يرسل في الخفاء ومنهم من يتحجج بالمخاطر؛ فالمعتدي أحكم السيطرة، والجميع خائف لكننا على حالنا جبارين صامدين لا ننحني، ولا يردعنا موت ولا يكسرنا جوع ولا يقف في وجهنا طغيان، مؤمنين أنه بقدر الألم تأتِ الرحمة ولا يمن بها صاحبها وهو الأعلى والأعلم. 


وفي يوم اشتد حصار الثعالب المعتدين على غابتنا قفزنا من نومنا وأصوات الاستغاثة تعلو والنيران وقد شبت في غابتنا والجميع ما بين منقذ وقتيل ولا ثالث لهما...


توقفت عن الحديث هنيهة ألقت نظرة نحو الأسد المنازع والغريب أنها لم تكن نظرة شفقة، ثم وجهت نظرها نحو الأرض المقابلة قائلة: هل ترين تلك الأرض الخضراء التي نحصد منها أجمل الفواكه والخضروات لقريتنا وغابتنا اليوم؟


أومأتُ موافقة، فأكملت بصوت حزين : كانت هنا خيمة الجرحى ومقبرة الموتى، تخرج منها أصوات الآهات من الألم والصراخ بعد موت الأحباب والحنين الممزوج بالرغبة في الانتقام؛ لقد قتلنا الشوق على من ماتوا في أحضاننا كما قتلتنا الرغبة في الانتقام ممن حرمونا منهم؛ فكنا مزيجًا من منتقم جبار ورحيم مشتاق، كنا وجعًا يمشي على الأرض مقهورون غادرتنا الشفقة محتدين عبأنا الحقد، ولكن صامدين.


وبعد دفن شهدائنا استجمعنا بعضا من شتات أنفسنا وجاء قرار جدي سيد القرية وقتها أنه لا يرد المعتدي سوى القوة ولا خلاص إلا بالمقاومة؛ فجمع العدة والعتاد والرجال كبار وشباب وحسم أمره وأعلن عزمه في استرداد حقنا؛ فابتهجت قريتنا بعزيمة وبدأ الأمل في شفاء الصدور المغلولة وكسر قيود العار وإعلاء راية الثأر؛ فلا بد من القصاص فالروح بالروح ولا جدال؛ فهي الحياة كما قيل في الذكر، ورغم الخوف استعدت قريتنا بكل طوائفها لنصر ننتظره، وجدي وأعمامي وأبي كانوا في أوائل الصفوف وبدأت ساعة الحسم، وهاجموا عدونا القائم وبدا النصر حليفنا في الجولة الأولى واحتفلنا، ولبست نساءنا البياض بعد السواد واستودعنا الشهداء بابتسامة رغم الدموع السائلة على الخدود، وعشنا ثلاث ليال في الجنة كنا منتصرين وقد أزحنا العار وأعلينا الكرامة وشعرنا أننا المختارون وأننا بحق جبارون؛ فلقد تألمنا وانهزمنا ولكننا أيضا انتصرنا وبت قريتنا سعيدة ثلاث ليالي رأينا فيهم الثعالب يخرجون من غابتنا منكسين الرؤوس يذرفون الدموع...


صمتت جدتي فابتسمت قائلة: هل تبكين فرحة للنصر؟ حقك فنحن الآن خير الأمم ولا يستطيع أحد أن يطأ غابتنا أو أي شبر من قريتنا دون إذن مسحت جدتي دموعها بيد أغرقتها تجاعيد السن ترتعش برغم الهيبة ثم أكملت "


أبكي غباء خسرنا معه الأرواح الطاهرة؛ فلا يمكن للنية الطيبة أن تأمن مكر الثعالب حينما أمهلناهم ليخرجوا بسلام كما طلبوا، لكنهم خلفوا وفي الليلة الثالثة استيقظنا على صوت زئير أغرق قريتنا وغابتنا رعباً. أذكر جيدا تلك اللحظة حينما أفقت من نومي بينما ابتسم قائلة "زئير أسد لا بد إنني أحلم" وفي اللحظة التي عدت فيها إلى وسادتي رج الصوت جدران البيت ومن بعدها علت أصوات الصراخ والاستغاثة قفزت إلى شرفتي الصغيرة لأرى ما يحدث ووجدتهم لقد عادوا. عاد الثعالب ناقصين في العدد لكن معهم ما يكمل قوتهم؛ فلقد حالفهم أسد كان كبيرا شرسا تنطق عيناه بدموية متعطش للنهش وافتراس ما تطوله أنيابه، وانقضت الفرحة وعاد الألم وتعالت الصرخات وبدأ أهالي قريتنا في النزوح إلى المخابئ ولكن كان الكثير لا يستطيعون فسهام الثعالب وأنياب الأسد كانت أسرع وأقرب، وخرج جدي وأبي وأعمامي للدفاع ودارت المعركة ولم تسمح لي أمي وجدتي بالمشاركة فكان علي أن أكون معهم في البرج العالي لبيتنا بعيدا، لكني كنت أشاهد ما يحدث من فتحات البرج السرية وكانت عيناي على الأسد الذي لم توقفه سهام ولم تشبعه جثث بل ظل مستمرا وأنا أفكر كيف أساعد وتذكرت أن البرج العالي هو المخبأ السري للأسهم والرماح وانطلقت نحو الغرفة الصغيرة الملحقة بغرفة مراقبة البرج وأخذت الرمح والسهام وعدت إلى الفتحات السرية واستعديت للضربة وعيني على عيني الأسد لكن تخشب جسدي وشلت يدي عن الحركة بينما جسد أبي يقاوم بين مخالب الأسد المفترس صرخت "ابتعد عنه" لكن لم يسمعني أحدا وانتبهت للرمح بين يدي وأرسلت السهم في إحدى عيني الأسد فزأر أكثر وصرخ تاركا أبي أرضا فحمله أحدهم بعيدا؛ فأرسلت سهاما أخرى قتلت كثيرا من الثعالب لكنهم قتلوا منا أيضا واستولوا على خيرات قريتنا مرددين "لن تنتهي الجولات حتى نقضي عليكم فالبقاء للقوي والفناء للضعيف"


خرجنا من البرج نركض إلى خيمة الجرحى والقتلى نبحث في وجوه فارقت إلى الموت وأخرى تقاوم الموت، وفي كل آه أسمعها أتمنى أن يكون أبي لكنه لم يكن. حتى انتهى الجرحى ولم يبقَ سوى الموتى وفي أول خطوة لمكان وجود الجثث وجدت جثمان أبي وقد مزقته أنياب المفترس؛ فبكت عيني واحتبس صوتي وقد أمسكته قوة القهر والإهانة، ثم اكتشفت أن الجثمان الذي يليه لعمي الأول وقد أصاب سهم الثعالب قلبه، ومن بعده كان عمي الثاني وقد دهسه الأسد فأصبح بلا ملامح. قتل أبي وأعمامي وجثت جدتي على ركبتيها تبكيهم بدموع أحرقت قلبها فأسكتته وفارقتنا، وظل جدي صامت؛ شاعرا بالذنب أنه آمن مكر الثعالب واقفا بمفرده قد جُرد من كل شيء وألبسوا قريتنا عاراَ جديداً، وحزناً لا ينتهي. 


 ومر عام في قتال لا يهدأ وخسران لا ينقضي، وأصبحت نائبة جدي فلم يكن هناك أكبر مني يكون هنا ولم يوجد من هو أكثر مني رغبة في الانتقام والثأر؛ لذا في كل مرة يهاجمنا ذاك المفترس مع الثعالب أتعمد إصابته، ولكنه يعود في كل مرة أكثر افتراساً معالجاً وكأن لا شيء يصيبه إلا إصابة عينه ففي كل مرة أرها تكون أملي في أن أقضي عليه يوما.


سئمت صبر جدي ومللت انتظار الثأر الذي لا يؤخذ وكرهت الحياة وتوقفت عن كل شيء سوى عن وضع خطة للانتقام وحشد جيش عنيد، وما إن أصبحت جاهزة ذهبت لجدي وأخبرته عزمي على الانتقام وقتل الأسد، ابتسم مفتخرا بي وأثنى على شجاعتي وعفويتي وثورة شبابي وفوران دمي، لكنه أخبرني ينقصك شيئًا واحدًا؛ فسألته عيني ليقول بهدوئه المعتاد :


ينقصك الحكمة؛ عناصر استرداد الحق كمثلث لا يكتمل إلا باكتمال أضلاعه وهم القوة، ومواجهة الموت أي الشجاعة، الحكمة وأنتِ لديك الأولى والثانية وتنقصك الثالثة؛ فالحكمة في اختيار الوقت والطريقة تساهم في استخدام الشجاعة والقوة بنجاح.


ثم قام جدي وفتح خزانته وأخرج منها دفتر وورق وقال: 


منذ وفاة أبيك وأعمامك عكفت على دراسة نقاط ضعف الثعالب واطلعت على أمجاد الأجداد وما فعلوه حين انتصروا وبحثت في كل ما يتعلق باسترداد الحقوق بطرق الحكمة وبطرق القوة حتى نسجت هذه خُطَّة اطلعي عليها. 


قلت بحماس: إذا فلننفذها فورا
- أين الحكمة؟
- ماذا تنتظر؟
- انتظر أسدا...أبحث عن أسد يساندنا في قتالنا المشهود، لكني لم أجد المناسب حتى الآن.


- لكن يا جدي الانتظار مرير وربما لا يأتي ما تنتظره؛ لذا علينا بتنفيذ خطتك أو خطتي وقتل أسدهم عوضًا عن الإتيان بمن يحاربه ، أرجوك يا جدي أعطنا الفرصة دعنا نرد الحق ونثأر لشهدائنا ونرفع رؤوسنا.


صمت جدي وكنت أحترق لسماع كلمته ثم قال "انتظري قليلا بعد وليكن هدفك شيئا أخر غير الانتقام" ثم وقبل أن اعترض كما فهم من عيني أشار لي أن أخرج، خرجت غاضبة عازمة على الانتقام الذي لا يريده هدفا لقتالي وتمتمت "ماذا يريد أن يكون هدفي إذا؟"


 اجتمعت بمجموعتي وحددت ساعة الهجوم وانطلقنا لتنفيذ خطتي باتجاه أماكن الثعالب في غابتنا، اقتربت بحرص ورأيتهم يضحكون ويلعبون، يشربون حليبنا ويأكلون لحومنا، يتناولون خير أرضنا خضروات وفاكهة حرم منها أهل قريتنا وقهرني رؤية أفراد من قريتنا يقدمون لهم الخدمة، وبقيت أراقب المشهد المُهين أتساءل هل هان الدم وذهبت الرحمة؟ لكن إلى أين؟ فكيف يعاشر بني قريتي المعتدين علينا؟ كيف يعاشروهم ويأكلون ويشربون معهم؟ هل نسوا أحبابهم ممن ماتوا على أيدي المعتدين؟ شعرت بالحزن فكرت أن أنطلق نحوهم أن أقتلهم جميعا وأصرخ فيهم خونه، وأحرر أهلي من قيد العبودية والعار أن أموت ليس مرة، بل ألف ولا أرى نقطة دماء واحدة تسيل من عرقي أو واحدا منا ينحني لعدونا، لكني تذكرت جدي والحكمة؛ فتساءلت هل من الحكمة أن أواجه أسدا ومئة ثعلب بمجموعة من عشرين فردا؟ هل من الحكمة أن أفتح نيرانهم وليس معي ما يكفي من الردع؟


توقف عقلي عن الحديث حينما سمعت أحدهم يركض مسرع يتساءل "أين طعام الأسد إنه جائع وإن لم يأكل فورا ستكون نهايتنا" ثم انتبهت لدخول الأسد والجميع خائف بينما الأسد يزأر واضح عليه الجوع يتلفت برأسه ورأيت إصابة عينه اليسرى أثري الذي تركته فيه وأملي في فوز المعركة القادمة، وتحفزتُ وزاد حقدي؛ وانطلق أدرينالين الثأر لتفور كل خلية في جسدي طلبًا لرد أمل الروح في الانتقام ولكن وجدت مجموعة أخرى من الثعالب وقد حضرت ومعهم غزال وضعوه في قفص كبير وأشاروا للأسد فتبعهم ثم أغلقوا القفص الكبير على الأسد وفريسته وظل الثعالب وغيرهم يشاهدون ويضحكون يتأهبون لتناول الطعام فيما استوقفهم أحدهم سائلاً "هل تم خلط الماء للأسد بالنبات المهدئ نريد نوماً هادئا اليوم" فأشار له أخر أي نعم… 


عدت إلى البيت وقد لاحت في رأسي خُطَّة جديدة وقابلت جدي فورا في الصباح لأخبره أنني وجدت أسدا وتفاجأ متسائلا" أين؟ "فأشرت إلى رأسي، ثم قلبي، ثم عضلاتي؛ فابتسم قائلا“ قولي الحقيقة" قلت "هل مازلت تريد أسدا؟ " ظل يناظرني متعجبا، فقلت "ربما ننتصر دونه"
 ابتسم مربتا على ظهري قائلا "المهرة الشابة دائما عجولة " 


قلت: لما لا تكون المهرة الشابة أسدا من وجهة نظرك؟ لما لا ترى أننا أسود فعلا لكن لا نملك قوة الاعتراف بقوتنا؟


تأملني جدي في صمت تقابلت خلاله عينانا؛ لأعلم أن شيئا طرق عقله ثم قال: نحن أقوياء لكن يجب ألا نترك شيئا للظروف.


مرت عدة شهور نشر خلالها أننا تركنا حقنا واستسلمنا للثعالب وأن العيش معهم أفضل من الموت بنيرانهم وكنت كل يوم أراقبهم من ذاك المكان نفسه الذي رأيت فيه بعضا من أهل قريتنا يتعاونون معهم وما زلت أراهم وأحزن لكن كنت أصبر للحكمة، واصبر وأنا أراهم يأتون في مواعيدهم ومعهم أسدهم يأخذون ما طاب لهم من أموالنا ومحاصيلنا ويدنسون أرضنا ويطالبوننا بالمزيد ونوافق؛ فيطمئنوا أننا طائعون راضون باستيلائهم على بيوتنا وإقصاء أهلنا واستعبادهم وقتلهم إن اعترضوا، وأصبحوا مقتنعين أنهم يمتلكون أرضنا وما عليها، حتى نحن من وجهة نظرهم أصبحنا عبيدا لهم ، ووصل بهم الحال أنهم غيروا اسم الغابة التابعة لقريتنا إلى غابة الثعالب ووضعوا لها حاكما، وكنت أحترق قهرًا لما يحدث لكن لم أفقد الأمل... 


وفي يوم تنصيب الحاكم كانت ساعة الصفر وأصبحنا هناك في معاقلهم كان كل شيء هادئ وهم يحتفلون والأسد الكبير في قفصه يأكل كالعادة ووضعت له المزيد من الأعشاب وتقابلت عينانا كدت أصيب عينه الثانية، لكنني لم أفعل كنت أريده أن يراني بينما أقتله أطفئ فيه نار سنوات الصبر وألم الفراق وحزن العار والتزمت الصبر من جديد مُنطلقة وقواتي نحو التلة الكبيرة المطلة على خيمتهم المُحتفلة، ورمينا سهام رماحنا في قلوب الحراس ثم دخلنا الخيمة في حرص واختبأنا وسطهم، وبدأنا في تصفيتهم بقتلهم واحد تلو الآخر حتى لم يبق في خيمتهم سوى القليل ممن آخذو النبات المهدى الذي وضعناه في شرابهم بواسطة أحد مقدمي الخدمة لهم وبهذا كان الحي منهم نائم وغيره قتيل ثم اضرمنا النار في الخيمة. 


أرسلنا الإشارة إلى جدي الذي جاء بقواته مستعدا وتفاجأت بأن معه الأسد الذي أراده؛ فنظرت له متسائلة "ألم أخبرك أين الأسد الحقيقي؟" 


فابتسم قائلا "كان لا بد من الحذر" ضحكت وأنا أراه يتلفت باحثًا عن أسد الثعالب وحينما لم يجده رمقني بنظرة متسائلة؛ فابتسمت بخبث قائلة "المهم الآن معك أسدين" ولم يفهم إجابتي ولم أفسر وانطلقت للمواجهة وشاهدت الثعالب يركضون نحو قفص أسدهم مستنجدين به بعد أن خسروا الكثير منهم، لكنهم لم يجدوه وظلوا يبحثون بينما بقيتهم يقتلون بلا هوادة، واشتد القتال حتى إنّ ما بقي منهم هرب خوفًا واسترددنا أرضنا وسيادتنا وبتنا آمنين لأول مرة منذ سنوات.

سألت بسرعة :لكن أين ذهب أسدهم؟ هل قمتِ بقتله؟


ابتسمت جدتي بفخر ناظرة إلى الأسد الكبير المريض فنظرت له ولأول مرة أمعن النظر في عينيه لأجد أن اليسرى منهما ليست كاليمنى، بل توارت وراء تجاعيد السن وبما أنها ليست موجودة لا يفتحها الأسد، وأنا التي كنت أظن أنها غير ظاهرة بسبب الجلد المترهل فوقها فقلت: احتفظت بقاتل أبيكِ!


أومأت لتكمل الحكاية قائلة : حينما عدت إليه بعد أن أنهينا أمر الخيمة كان شبه نائم فعلمت أن الأعشاب المخدرة التي وضعناها له في الطعام والماء منذ الصباح بشكل متقطع قد فعلت به فعلتها؛ فأخرجت سيفي لأقطع رأسه لكن شيئا أوقفني وألهمني بأن قتله بهذه الطريقة راحة له ولن يشعر بشيء وكنت أريد رؤيته يتعذب، يتجرع قسوة ما فعله معنا وليس هو فقط بل وأيضا أصدقائه الثعالب، وأما الثعالب فأقتلهم وأروي ظمأ ثأري منهم، ولكن هو نائم فعلمت أنها ليست ساعته؛ لذا طلبت من رفاقي إخفاءه حتى تنتهي المواجهة وكنت أعلم أنه حتى أن وجدوه الثعالب لن يستفيدوا منه بشيء حتى عشية اليوم التالي؛ فمنذ ذلك اليوم الذي كنت أراقبهم فيه اخترت واحدا من قريتنا ودسسته بين من يخدمون الثعالب وأعطيته الأعشاب المنومة وظللت أدون الأوقات بعناية حتى أعرف كم من الوقت ينام بعدها الأسد وصرت أزيد حتى وصلت للكمية التي تجعله نائما يومين كاملين، وبعد انتهاء المواجهة وخروج ما بقي من الثعالب من أرضنا متسائلين عن أسدهم الذي لا زالوا حتى اليوم لا يعرفون أين اختفى بدأتُ مواجهة أخرى؛ فقررت ألا أقتل الأسد بل تركته يعيش في قفصه مُعذب يأكل ما أمليه عليه رميت الخوف في قلبه حرمته مما حرمنا منه فأحضرت له أنثى وزوجته فأصبح لديه أطفال أردت قتلهم أمامه، لكن لم تسمح لي مبادئي وقيمي ففرقت بينهم؛ فعاش تعيس وعشت أنتقم لكل روح فارقت بسببه، كنت أنتقم بالحكمة وأسترد حقي بمبدأ "أن المعتدي عليه أن يذوق من نفس الكأس الذي سقى منه ضحاياه" ولقد نجحت فساءت حالته النفسية ومرض كثيرا وتعافى كثيرا فكان قويا حتى في مرضه؛ وظل هكذا الحال حتى بنيتُ أرضنا من جديد وزالت لذتي في تعذيبه واكتفيت، ولم يبقَ داخلي سوى الرغبة في الرحمة حتى بالظالم وعلمت في تلك اللحظة أن الرحمة والتسامح هما من أثمن الخصال؛ فليس سهلا أن تكون رحيما؛ فالرحيم قوي والقاسي أصله خائف بل هو يتوارى وراء قسوته خوفا من افتضاح أمره، أما المسامحة فجعلتني أرى وجهًا جديدًا لي وجهًا قادرًا على مراعاة عدوه ما دام مسالما غير مؤذِ.


قلت واليوم يا جدتي ماذا انتِ فاعلة به؟
قالت: فليفعل الطبيب ما يستطيع، وبما إننا لسنا في حرب؛ فالروح لخالقها والنفس بيده فإن أرادها الآن أخذها، وإن لم يأت موعدها فهذه حكمته...


"تحت مظلة الظلم يبقى طعم الألم قائم والرغبة في الانتقام تجتاح كل الرغبات والخوف يكبل الأحياء ويثنيهم عن الحياة، وبالرغم من أن البقاء أحياء هو حق أصيل إلا إنه يتحول لحلم وحيد بعد نحر كل الأحلام ولا يبقى سوى الأمل، لكن لا يظل الليل طويلاً؛ فلابد من شعاع نور يضيء عتمة الظلم ويروي ظمأ الأمان ويعيد الحق لصاحبه ولقد اقترب"

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology