وقفة مع الشاعرة ابتسام الصمادي
إن الدخول إلى عالم الشاعرة ابتسام صمادي أشبه ما يكون بالدخول إلى معركة ومواجهة تحتاج إلى تخطيط مسبق وتكتيك وعلى علم ودراية بقراءة الخرائط وتحديد الجهات بكامل العتاد والعدة وبلباسك الميداني الكامل مزوداً بالمناظير التي تعمل تحت الأشعة الحمراء وفوق البنفسجية بجانب البرتقالي والأحمر وعلى يمين الأخضر و الأصفر وخلف الأزرق بدائرة قزح.
إن فعلت ودخلت المعركة ولم تظفر بها كنت كالأعمى الذي يتحدث عن جمال الربيع ولم يره قط أو الأطرش والأطرم الأصم الذي يتكلم عن عذوبة الغناء و روعة الألحان ولم يسمع منها شيئاً يوماً وتلك خطوة لا تخلو من الرعونة والعبث الصبياني والسطحية الخرقاء.
إن أعدى أعداء الشعر والأدب هو الجهل والسطحية أو النظر إليه من زاوية واحدة ومعالجته من جوانب وإهمال أخرى، يجب النظر إلى الأدب والشعر بعمق ورويّة بتأمل وتبصّر .
القصيدة منشأة وبناية وعمارة لهذا كانت تقول رواة العرب قديماً وهي تنقل الأخبار : ( فأنشأ يقول ) أي شرع في بناء منشأة ولكشف مكنون هذه المنشأة ومطالعة ما تكنزه وتحتويه يجب هدمها لبنة لبنة وطابقاً فطابقا ثم إعادة تركيبها وبنائها كما يفعل الميكانيكي بآلته يفرطها برغياً برغيا و قطعة قطعة لفحصها ومعالجتها من ثم يقوم بتجميعها بعد معالجتها وكذلك نفعل بالمنشأة (القصيدة) نفرطها وننعثها نعثاً حرفاً حرفا ثم نعيد تجميعها وتركيبها حرفاً حرفا و مفردة ً مفردة وجملة فجملة وصورة ً فصورة ومعنىً فمعنى إلى آخر ذلك للوقوف على خيوطها المترابطة ونسيجها المتشابك والمتسلسل ولبناتها المرصوفة المرصوصة وتدرجها المتطابق المتصاعد للوقوف على قمتها ورأس هرمها للإحاطة بساحتها ومساحتها الكلية والإلمام بأطرافها.
تقول الشاعرة إبتسام الصمادي في (عذوبة بعين الإعتبار) :
الشاطئُ الممتدُّ.. مشطي
والمدُّ... شَعري
والجزرُ.... حين أردّه للخلف عن قسماتي
والريح قبل قلوعها مرآتي
أما النوارس... قرطي َ المشغول باللون
المؤاتي
ولزينتي كل اللآلئ
والأزرق الشفاف شالي
والموج أسراري التي مهما بدت
تخبو على ألف احتمالِ.
نلاحظ الأحرف : ال /ش/ وال /ط/ وال /م/ وال /د/ والتشديد أيضاً لعبت على خلق موسيقى يتماوج إيقاعها في خطوه بتناغم وتآلف وانسجام يحفز الذهن ويحرك الوجدان تمسك بخيطه الشاعرة وتبقيه حاضراً في مايليه : ( ألم.. شْ.. غول / ال.. شَّ.. فاف / شَٰ.. الي) ثم الراء كذلك أيضاً في : ( شَعري. الجزر. أرده. الريح. مرآتي. النوارس. قرطي. الأزرق. أسراري) ثم الأحرف (آتي) التي شكلت نسقاً عمودياً وخيطاً يمسك بروع المتلقي ويسرح بخلده ووجدانه. شكلت فاصلاً موسيقياً ومقطوعة تنفصل عن التي تليها في خطوها الإيقاعي وتعمل على روح المعنى ودلالته بانسجام وتهيؤ لما بعدها ( أقصد بالموسيقى هو النغم الصادر عن لفظ الحرف جراء صفته ومساحته الصوتية ومخارجه وحركته وترتيبه المركب في المفردة والمفردة في الجملة والشطر. فاللفظ وجرسه المتناغم والمتآلف المنسجم يأتي بالنغم الموسيقي وحركاته وسكناته تأتي بالإيقاع الذي يضبطه أس التفعيلة /الأسباب والأوتاد والفواصل / وتدويرها في الشطر) :
الشاطئُ الممتدُّ.. مشطي
والمدُّ... شَعري
والجزرُ.... حين أردّه للخلف عن قسماتي
والريح قبل قلوعها مرآتي
أما النوارس... قرطي َ المشغول باللون
المؤاتي.
شكلت مقطوعة موسيقية إيقاعية متناغمة متآلفة تهيؤ لما بعدها والتي بدورها تهيؤ للخاتمة التي هي موطن الرسالة :
ولزينتي كل اللآلئ
والأزرق الشفاف شالي
والموج أسراري التي مهما بدت .
نلاحظ أن كل شطر أخذ رتماً إيقاعياً متفاوتاً في مدّه، عمل الأخير /والموج أسراري التي مهما بدت / على توطئة الوقوف على صورة : / تخبو على ألف احتمال ِ /
اقرأ بعناية وتأمل :
الشاطئُ الممتدُّ.. مشطي
والمدُّ... شَعري
والجزرُ.... حين أردّه للخلف عن قسماتي
والريح قبل قلوعها مرآتي
أما النوارس... قرطي َ المشغول باللون
المؤاتي
ولزينتي كل اللآلئ
والأزرق الشفاف شالي
والموج أسراري التي مهما بدت
تخبو على ألف احتمالِ
.
هذه المقطوعة أو التغريدة التي شطرتها الشاعرة إلى اثنتين بمنافرتها إيقاعياً يهيؤ الأول للثاني ويوطيء له وكذلك منافرتها ب (ل) الحروف الأخر التي سبق وذكرت ومغايرتها باللام إذ جعلتها قافية الختام وشحّت موسيقاها بوشاح ذهبي برّاق.
هذه المقطوعة لوحة فنية رفيعة المستوى والذوق، فرقة موسيقية تعزف وتغني على المسرح الأوبرالي لذائقة المتلقي رفيع الحس.
تعمل إبتسام الصمادي بوعي وذكاء وحرفية بشاعرية عبقرية ورفعة وذوق ترتقي بذائقة ووعي المتلقي بتفعيل وجدانه وتصويب ذائقته.
تعزف لنا هذه الفرقة وتغني لنا بأن الحسناء ابتسام تقف على الشاطيء ممسكة بمرآتها تمشط شعرها و ترده للخلف عن قسماتها متزينة بقرطها وحليها تلف السماء على كتفيها كالشال والأمواج تحت قدميها.
هذه الصورة الأولية للمشهد والحكاية تكمن تفاصيلها الدرامية في عرضها الفني وصياغتها الفنية الماسية. لغتنا صاغة وصوّاغة للذهب وابتسام صائغة ماهرة متفرّدة باقتدار.
لغتنا شاعرة كما يقول العقاد كما يراها المستشرق الفرنسي وليام مارسيه إذ يقول : عبارة واحدة من اللغة العربية كالعود إذا نقرت وتراً واحداً تداعت لك الأوتار الأخرى بألحان مختلفة... ثم تحرك اللغة في أعماق النفس ما يتجاوز حدود المعنى المباشر لينطلق موكب من العواطف والصور).
الشاطئُ الممتدُّ.. مشطي
والمدُّ... شَعري
والجزرُ.... حين أردّه للخلف عن قسماتي
هذه الصياغة الماتعة ربما يتداخل فيها التشبيه بالاستعارة والكناية كما يتداخل فيها الإنزياح التركيبي والدلالي والإيقاعي معاً عمل الإيقاعي على هذا التداخل بتقاسيمه وتشطيره ليصرف الصورة والمعنى إلى جهات عدة مختلفة.
منها مثلاً : الشاطيء مشطي والمدّ والجزر شعري حين أرده للخلف.....
٢ : الشاطيء مشطي والمدّ شعري والجزر كذلك يصبح حين أرده للخلف عن قسماتي.
وكذلك الإنزياح التركيبي هنا ( الريح قبل قلوعها مرآتي) إفادته الدلالية الغالبة في الملاءمة والمقاربة تفيد أن إقلاع الريح ينجم عن اتخاذها مرآة ً أي لا تفعل ( تقلع) بذاتها وفعلها إنما يحدث وينجم ويحصل ذلك عند اتخاذها مرآة ً ولك أن تتخيل وتتصور المشهد ياصديقي...
عذوبة بالوصف ورقة بالحس وشاعرية تثور بالمشاعر والرؤى والخيال وتفتح له الأبواب على مصراعيها وهذا ما أشارت إليه الشاعرة بقولها : أسراري التي مهما بدت تخبو على ألف احتمال ِ
تعمل ابتسام الصمادي وتشتغل على شعرها وأدبها بوعي وحصافة وشاعرية عذبة رصينة وذوق رفيع يرتقي بوجدان المتلقي ويصوب ذائقته بعيداً عن التهويم والتعتيم والإسراف بالغموض والتشويش والعبث والابتذال الذي نراه اليوم في الساحة. تثور باللغة وتشحنها بطاقة خلاقة من الإيحاءات بالتصاوير العذبة والشفافة. تعمل على تثوير اللغة وتعزف على وترها بعذوبة وفن ممتع باهر وتستثمر ظاهرة الإنزياح وتفرعاته / الدلالي والإسنادي والتركيبي والإيقاعي / وأدواته وفاعليته الدلالية وأبعاده الجمالية لتشكل لغة شعرية فريدة وجديدة وحديثة بإمتياز واستثنائية مائزة غير مسبوقة ولا مطروقة لغة شعرية تكسبها طاقات إيحائية انفعالية وإمكانيات تعبيرية تفتح آفاقاً جديدة لأساليبها التعبيرية واستخداماتها في فن العربية وآدابها.
وعسى هذا الحديث يكون توطئة لحديث آخر ولقاء آخر مع الشاعرة ابتسام الصمادي في (والشوق شأنك) وذاك حديث آخر.
إلى لقاء قريب ان شاء الله تعالى.
بقلم طارق قطف
إرسال تعليق